مبروك نجاحك الغير مرئي !

نهاية وبداية كل عام غالبًا تحمل معها قلق وجودي لي ولمن حولي. سؤال ماذا فعلت في العام الماضي؟ يحضر مشحونًا بالكثير من الأسى والإحساس بالعدمية والإحباط وما يزيد الطين بلة بأن هذا السؤال يُحرض سؤال آخر ألا وهو ما خطتك/ نيتك للعام القادم؟ والذي يأتي مشحونًا هو الآخر بشيء من الخوف وعدم الثقة ببشريتنا التي يصعب عليها الالتزام بالخطط والآمال العظيمة التي تملأنا.

 

نتبادل هذه الأسئلة بحُسن نية وبتعطش فطري لمحادثة فيها عُمق نتشارك فيها قلقنا السري. لكننا للأسف نفشل في خلق محادثة حقيقية ومطمئنة لأننا لا نملك اللغة الصحيحة لقياس نجاحاتنا.

 

فمثلاً الإجابة المتوقعة على سؤال ماذا فعلت العام الماضي؟ هي شكل أو عدد معين من الإنجازات والأحداث. نحن نتوقع من أنفسنا ومن الآخرين جوابًا من قبيل: قرأت عشرين كتابًا، وأخذت شهادة الدكتوراة، أو تعلمت اليوقا، أو التزمت بالذهاب للنادي الرياضي كل يوم. نتوقع أن نذكر أحداثًا من قبيل: انشغلت بالحمل والولادة أو تزوجت أو نقلت منزلاً جديدًا.

 

كل ما سبق إنجازات حقيقية تستحق الاحتفال، لكنها ليست الإنجازات الوحيدة التي يصل إليها الانسان. هي فقط الإنجازات (المرئية) التي يستطيع التحدث عنها. التي يجد لها الحروف والكلمات لوصفها. هُناك إنجازات ونجاحات “غير مرئية” كثيرة. من الصعب جدًا أن نجد لها حروفًا، رغم أن ألم مخاضها وجهد الوصول إليها أحيانًا كثيرة أصعب بكثير من الإنجازات المرئية.

 

إهمال الإنجازات الغير مرئية مُضر وخطر لأنه يجعلنا في دائرة غير منتهية من الإحساس بعدم الرضا والإحباط. ربما علينا من الآن فصاعدًا أن نخلق هذه اللغة المفقودة. أن نحتفل بالأشياء العادية التي تُعبر عن نُضج عظيم ونجاح غير عادي لكنه غير مرئي. ربما علينا أن نبدأ بتبادل عبارات كالتالية:

 

  • العام الماضي استطعت أن أجلس في المنزل لمدة أسبوع في إجازة هادئة بدون التخطيط لأي سفر أو أي أنشطة أخرى. وأخيرًا استطعت التغلب على إدماني على اللهاث المستمر خلف الحماس والقوالب الجاهزة للترفيه والمتعة.
  • الحمد لله نجحت في مغادرة سريري كل يوم والذهاب لعملي رغم إحساسي بضآلته وعدم جدواه.
  • قُمت بعدم استخدام الكريدت كارد الخاص بي لأني تخلصت من حاجتي الدائمة لشراء أشياء لا احتاجها.
  • وجدت طريقة أستطيع بها التحدث مع والديي الذين تتسع الفجوة بيني وبينهم يوميًا.
  • تخلصت من حمايتي المُفرطة لابني وأصبحت أثق في قدراته على تكوين مستقبل خاص به.
  • لم أضرب أو أرفع يدي على ابنائي رغم اني كنت طوال العام في ضغط نفسي شديد.
  • توقفت عن احساسي بالحاجة لتقليل من شأن الآخرين حتى أحس أني أفضل منهم.
  • أصبحت أفضل في الاستماع للآخرين.
  • لم يعد يهددني تأخر زوجي في العمل لأني أصبحت أشعر أكثر بالأمان نابعًا من داخلي.

 

الاحتفال بهذه الإنجازات التي تعكس انسانيتنا الحقيقية، يُعتبر ضد التيار وعكس المعقول والمتعارف عليه في عالمنا الذي يحتفل بالكبير والكثير وبالجري في عجلة الإنتاجية التي لا تتوقف. إلا أن البدء بالنظر لها كإنجازات سيحمينا من القلق المزمن المُضر بصحتنا العقلية والجسدية، وسيساعدنا في التعافي من الضرر الذي خلفته الحداثة على توقعاتنا وتعريفاتنا للنجاح، والأهم من ذلك بأننا سنبدأ بالالتفات لما هو مُهم وداخلي على المدى القصير والطويل في حياتنا الخاصة والعامة.

 

مُبارك عليكم نجاحاتكم الغير مرئية !

1 Comment

  1. صباح الخير وشكرًا لكتابتك هذا المقال الذي نوّه إلى نقطة يغفل عنها الكثير عند جرد حصائل العام الماضي. وهي عملية أي جرد حصائل الأعوام لا أؤيدها كليًا ولا أعارضها كليًا فهي تتطلب وعيًا ذا مستوى مرتفع كي تتم دون الشعور بالإحباط أو الأسى.
    دمت مبدعة.

    Reply

Submit a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *