أستطيع أن أسمع صوت ضحكات الناس عليّ

أستطيع أن أسمع صوت ضحكات الناس عليّ

شيء يدور داخل بطني ..يشبه المغص لكنه ليس بمغص…حلقي ناشف..قلبي يدق بسرعة..أشعر بأني مصابة بمتلازمة النظر الى الجوال كل خمسة ثواني…ادور في المنزل بشكل عشوائي..اختبئ تحت اللحاف واشعر بالحماس والطفش في وقت واحد..اعود للنظر الى الجوال مرة أخرى..أقوم بتحديث صفحة الفيسبوك والمدونة للمرة المليون..استطيع أن أسمع صوت ضحكات الناس عليّ..يسيطر علي شعور يشبه السباحة في المحيط: فيه شيء من حماس المغامرة مع الانهاك على حافة الغرق!

نعم هذا ما يحدث داخلي حين أنشر أي تدوينة ..لذلك أنا غالبًا أهرب من مواجهة ما أكتب بعد أن أنشره…أكتب ثم أخرج وأتعمد أن أحمل معي جوالي ببطارية غير مشحونة.. أو أنشر ثم أدخل اجتماع مهم.

بعد مرور الساعات الأولى من النشر يتبخر هذا القلق وأمتلأ بالإحساس بالرضا بأني قمت بالتعبير عن نفسي وبأني مارست سلطتي على الحياة عبر الكتابة…بأني أمسكت بالحياة في يدي للحظة دون أن تفلت ..تذوقتها ..أضفت عليها مقاديري التي تُناسب مزاجي ..وتذوقتها من جديد كما أحب. نعم الكتابة هي أحد أشكال السُلطة والتمرد على اللحظة ..على السائد ..على الذات !

أنا اليوم أدّون عن احساسي قبل النشر وبعد النشر وأثناء النشر..أكتب ذلك لنفسي ..لأني أريد لهذه المشاعر أن تتجمد ..أن أبرّوزها في ذاكرة الوجدان حتى أتذكر -(في كل مرة تحاول جيوش الشك والفشلة والخوف أن تأكل حرفي وفكري)- بأن مشاعر الغرق بعد النشر موجودة ..ولا مشكلة في الاعتراف بالخوف ..وأني أعرف جيدًا كيف يجف الحلق وتتسارع نبضات القلب وكيف أن متلازمة النظر إلى جوالي ممتلئة بالشفقة ..لكن كل ذلك ثمن رخيص لشعور السيطرة اللذيذ الذي تمنحه الكتابة ..للإدرينالين الذي يسري في جسمي من إحساس التمرد والمغامرة الذي يُولد مع الحرف.

لا أعرف عنكم ..ولست متأكدة إن كان ذلك فيه شيء من المُبالغة بالنسبة لكم أو لا…لكني أواجه طوفان من الشك والخوف والاحساس بالعار عند التفكير بعرض أي شيء يجتمع فيه الابداع والصدق ومشاركة نفسي ومشاعري. وقد استغرقت وقتًا طويلاً حتى استطعت الاقتناع بفكرة التدوين بشكل عام. فقد قضيت عامين وأكثر أدون بشكل خاص وسري في هذه المساحة. وكُنت أتحجج كثيرًا بأني لا أريد الكتابة بشكل عام لأن الكتابة تعرّي أمام الملأ وأنا شخص مُحافظ ومحتشم. إلاّ أن أتت اللحظة وقمت رغمًا عن أنف الشك والخوف والتردد بنشر هذه المدونة.

لذلك بعد مرور ستة أسابيع من التدوين أشعر بأني اود أن احتفل بذلك وأن أقوم بحفظ هذه المشاعر جيدًا في الذاكرة حتى تكون عونًا لي كلما وهن العزم مني وامتلأ الحُلم خيبة واحباطً

هذه التدوينة لأؤرخ نجاتي من الخوف والتردد اللذان يُصاحبان أي عمل إبداعي..ولأذكر نفسي وأذكر كل شخص يريد أن يقدم إبداعه للعالم لكنه متردد بهذه الثلاث نقاط:

أولاً: يُمكنك أن تكون شجاعًا وخائفًا في ذات الوقت. يمكنك أن تمتلك الشجاعة اللازمة لتقديم ابداعك للعالم وتمتلك في ذات الوقت الخوف الذي يُشعرك بأن حياتك ستتوقف هُنا وبأنك ستصبح حديثًا للضحك في المجالس. الخوف الذي يجعلك تؤمن بأن الجميع سيشفق عليك، وسيتحدث عن فشلك، وبأنك ستصبح مثالاً للأشخاص الذين يقدمون أعمالاً تزيد من بشاعة العالم. نعم لا بأس بأن تشعر بكل ذلك كما أنه لا بأس بأن أحس بشيء يدور داخل بطني ..يشبه المغص وليس بمغص..لا بأس بأن أحس بأن حلقي ناشف..وقلبي يدق بسرعة..وبأني مصابة بمتلازمة النظر الى الجوال كل خمسة ثواني…وبأن أدور في المنزل بشكل عشوائي..وأن أختبي تحت اللحاف وأن أحدّث صفحة الفيسبوك والمدونة للمرة المليون…الخ لا بأس في كل ذلك.

في الحقيقة ..من الجيد الاعتراف بكل ذلك وتقبله كجزء من العملية الابداعية.. من الجيد التعاطف مع الجزء الخائف منك والتربيت عليه من جهة والتصفيق للجزء المبادر الذي يرغب بالانتاج والابداع من جهة أخرى. الخوف جزء مهم من طبيعتنا البشرية ومحاولة تقسيم العالم إلى أشخاص شجعان لا يخافون وأشخاص غير شجعان يخافون هي خرافة لأن الحقيقة بأن جميعنا نخاف لكن الشجاع هو من يستطيع أن يتعامل مع خوفه.
قاعدة لنفسي وللجميع :بعد اليوم لا داعي للتظاهر بأنك غير مهتم بردة فعل من حولك أو بعدم الخوف والتردد.

ثانيًا: العبارة القائلة بأن الانسان كائن اجتماعي بطبعه هي من أكثر العبارات التي قدمها الفلاسفة والعلماء صدقًا. جميعنا يسعى بشكل أو بآخر إلى التواصل على مستوى عميق انسانيًا مع من حولنا. والكثير من الأعمال الفنية والإبداعية والأدبية تسعى بشكل أساسي للتشارك الإجتماعي في التعبير عن مُعاناة إنسانية أو رغبة بشرية. في نظري الهدية التي يُقدمها الفنان أو الكاتب لهذا العالم هي جعله مكانًا أقل وحشة وأكثر أنسًا. الفنان أو الكاتب غالبًا ما يُنتج فنه ليتمرد على بؤس العالم، على الجري المتواصل الذي فرضته الرأسمالية على أفراد هذا الكوكب، لينعتق من الضجيج والزحمة واللامبالاة التي نرتديها يوميًا عند ارتداءنا ملابس وظائفنا الرسمية التي تُنسينا أين نحن وإلى أن سنذهب وكيف حال من نحب؟. الكاتب أو الفنان بشكل عام يُشارك العالم فنه ليُخرس البؤس للحظة ويعطي للإنسانية صوتها ..ليمد يده لتصافح أي شخص في هذا العالم الفسيح يُشاركه ذات المعاناة ليقول له أنت لست وحدك..أنا هُنا أعاني ما تعانيه !

لكن هذا ليس السبب الوحيد الذي من أجله نكتب أو ننتج فنًا – على الأقل بالنسبة لي ـ أنا أكتب أيضًا لأني أحتاج أن أكتب.. لأنها الطريقة التي أكتشف بها العالم وأتعامل مع كل الأشياء الغير منطقية.. الغير مفهومة ..الغير عادلة من حولي. أكتب لأنه الخيار البديهي الذي أجده أمامي عندما أصاب بحمى نتيجة الحروف التي تحتشد كجيش غاضب في عقلي. أكتب لأن الكتابة تبدو لي هي الوسيلة الوحيدة التي أستطيع بها أن أحتفظ على ذاتي في الوقت الذي يريد كل من حولي أن يضعني في قالبه. الكتابة هي حُرية  في زمن الديكتاتوريات.  أكتب لأن الله منحني الكلمة و عليّ أن أشكره باستخدامها، وأن أستمتع بهذه النعمة. أكتب لأني عندما لا أكتب أشعر بأني كمن يسلب نفسه متعة المشي وقد أعطاه الله قدمين.

من المهم تذكّر جميع الأسباب التي تنتج من أجلها فنك أو تكتب من أجلها لأننا نعيش في زمن قيمتك وجدارتك تتحدد بعدد اللايكات التي تحصل عليها في الفيسبوك أو انستغرام وبعدد الريتويتات التي تحصل عليها في تويتر. أنت جدير بالاحترام والمتابعة والقراءة لك ما دمت تملك الكثير من المتابعين والتعليقات واللايكات. لا عيب في امتلاك الكثير من المتابعين بل بالعكس من الجيد أن يستفيد ويستمتع بعملك الكثيرين لكن هذا لا يعكس إلا جانب واحد من العملية الابداعية التي يعيشها الكاتب أو الفنان دون تسليط الضوء على الجهد والتعب الذي يسبق النشر. عملك وفنك ذا قيمة بغض النظر عن تفاعل من حولك معه وبغض النظر كم من الوقت يحتاج الجمهور ليكتشفه.

ثالثًا: ليس من المهم أن تشعر بأنك تعرف ماذا تفعل.. ارتحت كثيرًا عنما اكتشفت اني لست الوحيدة في ذلك فقد قرأت بأن الكثير من الكُتّاب والفنانين والمبدعين يشعرون بأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.. كما تصف الكاتبة الشهيرة مايو آنجلو بأنها تشعر دائمًا بأن شخصًا ما سيكتشفها وسيكتشف بأنها تمارس لعبة على الجميع. هذا الشعور بالمجهول وبعدم المعرفة يبدو أنه طبيعي عند قراءة سير الأدباء والفنانين. وفي الحقيقة هو الذي يُعطي العملية الابداعية دهشتها ومتعتها. إذا كُنت متأكد بأن ما تكتبه جيد ١٠٠٪ فهذا يعني أنك مسلوب حس المفاجآة المصاحب لردة فعل أحد القراء. إذا كُنت تعرف بشكل يقيني كيف سيستقبل الناس كتاباتك فهذا يعني بأنك في الطريق الخطأ وبأنك تكتب بشكل تقني بعيد عن الجمال والفن والإبداع. الخوف من المجهول جزء مُنهك في حياة الفنان لكنه نبض الذي يُحيي الانتاج.

كل ما علينا فعله هو أن نواصل الكتابة ..والعمل الابداعي…نواصل الممارسة ..لن ترضى عن عملك في البداية …وستشعر بأن عملك ينقصه الكثير – كما أشعر أنا الآن- لكن كما يقول ارا جلاس أن هذا الاحساس طبيعي وأنك لن تقوم بإغلاق الفجوة بين عملك وذوقك الفني إلا عبر الممارسة. شاهد فيديو ار جلاس الشهير

وأخيرًا: شكرًا لكل الذين أكرموني بقراءة المدونة في الستة الأسابيع الماضية ..وشكرًا للذين اقتطعوا من وقتهم الثمين ليتواصلوا معي هنا في التعليقات أو عبر الايميل أو في الواتس آب أو في أي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي. تعليقاتكم -وان كنت مقصرة قليلاً في الرد عليها -إلاّ أن تعني لي الكثير..تدفعني لمزيد من الكتابة ..تنتشلني من الاحساس بالغرق بعد النشر..تهمس في أذني بأن حرفك جدير بالنشر.

والآن حان موعدي لأحس بأن شي يدور داخل بطني ..ليجف حلقي..لتتسارع نبضات قلبي ..لأدور في المنزل بشكل عشوائي…
وحان وقتكم لتشاركوني خبراتكم عندما تقومون بانتاج شيئًا حميميًا وخاصًا وتنشرونه مع من حولكم ..فخبراتكم ستؤنسني وتُشعرني بأني لست وحيدة في ذلك.

11 Comments

  1. أوافقك الرأي في كل ما كتبته. أعجبت بتعبيرك عما يدور في عقلي و جسدي من قلق و توتر. قد يبدو البعض ضعيفا و أحمقا احيانا و لكن هو أقوى و أذكى مما يتصوره عقل الانسان. فكل ما يخبئه الانسان من أفكار و إبداعات قد تكون بحاجة الى دفعة بسيطة ليحارب الخوف الذي بداخله. و قد يرى البعض ان الشخص محب “الدراما” من انفعاله الزائد و لكن معاناة من يحس بذاك لا توصف احيانا. تختلف من شخص لآخر و قد تصل الى حالة مرضية، لا خجل منها و لكن بحاجة الى من يفهمها و يؤمن بحقيقة وجودها.
    شكرا لكي.

    Reply
  2. ومع كل تدوينه وفي كل مره أقرأ لك أُدهش أكثر من قبل بمستوى الشفافية الذي وصلت إليه ..
    ماشاء الله ❤
    حقيقة..لديك حرف وإحساس وتجربه إنسانية تستحق النشر..
    استمري

    Reply
  3. رفاه من الجدير ان تعرفي اني ايضا مُصابة بمتلازمة النظر لجوالي في باث و الفيس بوك انتظارا لمدونتك القادمة ..
    نعم ،، هناك ضحكات فخر ،، فرحة ،، اعتزاز،، و شوق حين اقرا لمدونتك..
    مدونتك اضافت لحياتي متعة جميلة أبسطها انها تعطيني احساس متعة الحديث و الجلوس معك..
    و من الجدير ان تعرفي ان كتاباتك في مشروع الامتنان لازلت اقرأها و افتقدها كثيرا..
    ادام الله على روحك الشفافية و الصدق..
    و ادام الله على قلمك متعة الحكمة..
    و ادام الله على حياتي صحبتك الا هيا وسام شرف اتقلده بفخر..

    Reply
  4. “لا أعرف عنكم ..ولست متأكدة إن كان ذلك فيه شيء من المُبالغة بالنسبة لكم أو لا”

    إن تحدثت عن نفسي فسأقول لك أن الطوفان الذي تقولين، مألوف جداً لدي، وعلى العكس لم أشعر بأنه نوع من المبالغة، إنما شعرت بأنه محاولة صادقة للوصف -وصف ما يستعصي على الوصف-. وبغض النظر عن مدى نجاح المحاولة بالنسبة إليك، فهي بالنسبة لي مُرضِية جداً لأنها لامست جزء مني أخذ يهتف بدهشة: “وااو لست وحدك”، وجزء آخر أخذ يعاتبني لتقصيري في مصالحة طوفاني والتعايش برضا معه كما تفعلين أنت، -وأهنئك على ذلك بالمناسبة-

    Reply
  5. *لسببٍ ما ظهر تعليقي ناقصاً غير مكتمل، وهذه التتمة:
    طوفاني أيضا يبدأ بالغليان حين أتشارك مع أحد جزءاً عميقاً مني و مستتر يأبى الظهور علناً لأنه يظن أنه ضعيف ومخجل و وحيد وفريد ولا يمكن لأحد أن يفهمه! غير أني لم ألتفت لمواجهة طوفاني بعد، ولم أحاول تهدئته وتفهمه، أو حتى تعلم السباحة في خضمه،لذا اعتبرت تدوينك هذه دعوة لأن أسلك ذات الطريق، الطريق الذي أطمئن إلى فكرة أن أحد ما سلكه قبلي، بل وأمدني ببضعة قواعد وارشادات

    Reply
  6. شكرا رفاه …اعبر لك عن شعوري في كل مرة اقرأ لك تدوينة وهو شعوري (بالامتنان) حقيقة شكر لك لا تتوقفي عن الكتابة .

    Reply
  7. لأنك كتبتي هذا المقال !! شكرا من الاعماق
    لازلت اذكر نفسي ايام الاعدادية كيف كنت شغوفة بالكتابة ،، كيف ملأت المنتديات بما اكتبه ،، وكيف هو شعور الادرينالين المتدفق عند قرائتي لتعليقات الاعضاء وتعقيباتهم وحتى انتقاداتهم بكافة اشكالها !! لقد اعدتي لي تلك الرغبة الجامحة في مشاركة الافكار التي باتت متزاحمة في عقلي مذ دخلت الثانوية وتوقفت عن الكتابة باستمرار انشغالا بالدراسة ،، ولكني اعترف بانني حينها فقدت نفسي ،، لذا والان ،، عائدة مع لفافات ورق وريشة ،، حسبي منها ان تنفخ الروح في حروفي ،، شكرا جزيلا مرة اخرى

    Reply
  8. شكراً لك لكتابة شيء ما بهذا اللطف 💛💛💛💛وتكبدتي عناء محاربة كل تلك المشاعر الكثيره بداخلك شكراً
    لان حرفك يُبهرني ويجعل تقاسيم وجهي تتفاعل مع كل حرف و شعور اللهفه لقراءة المزيد من كلماتك القريبه لقلبي 🌸

    Reply
  9. استمتع ثم استمتع بالقراءة لك .. رغم كل ما تعانيه من مشاعر بعد الكتابه أرجوكي لا تتوقفي .. ليس لامتاعنا نحن من نتابع مدونتك فقط بل لاني متاكده ان لك مستقبل رائع باذن الله ، سلاسة الأسلوب ووصول المشاعر تجعل من كتاباتك رساله سهلة تصل للكثيرين ، وأؤمن بأن رسالتك راقيه تحتاج وتستحق لان يسمعها الكثير
    لك كل الحب والدعاء بالتوفيق والمزيد من الابداع باذن الله … استمري 👍
    عبير رضا

    Reply
  10. جميله كلماتك وصدق مشاعرك وافكارك انتي انسانه رائعه وجميلة لما توقفت الان عن الكتابة ؟ كنت اطن ان كل انسان متفرد ولا يشبهه احد لاكن انا وانتي لدينا الكثير من التشابه لذالك اسعد بقراءة مدونتك اكملي ولا تتوقفي

    Reply
  11. لأول مره استمتع بقراءة مدونة لهذا الحد ..
    شخصية رائعة و أستاذة مبدعة و متمكنة ..

    👍🏻🌸

    Reply

Leave a Reply to هبه Cancel reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *