احذروا الأحلام المعلبة

احذروا الأحلام المعلبة

لا أخطر على صحتك من الأكل المُعلّب سوى الحُلم المعلّب الذي مهما كان كبيرًا ونبيلاً إلاّ أنه مضرّ على صحتك النفسية والعقلية. رغم أننا كثيرًا ما نظن بأن لدينا الحُرية بأن نحلم كما نُريد وكثيرًا ما نُردد اعجابنا بالقدرة اللامتناهية للعقل البشري في أن يحلم ويتخيل ويضع أهدافًا فريدة، إلا أنه في الحقيقة يحاصرنا المجتمع في كل عصر وفي كل مرحلة بأحلامٍ مُعلبة جاهزة التنفيذ والسعي. الأحلام المُعلّبة هي الأحلام التي تُقدّم لنا عنوةً وعدوانًا على أنها المعيار والنموذج الأفضل للأهداف والطموحات. في الجيل الماضي كان الحُلم أن تحصل على وظيفة حكومية، تتزوج، ثم تبني أو تملك منزلاً وبذلك تكون وصلت. وعلى عكس الأكل المعلّب، في حين أن المجتمع اليوم يشجع الأكل العضوي النظيف إلا أنه في مجال الأحلام المعلبة مازال يتعامل مع من يختار حُلمًا أكثر أصالة وفردية على أنه غير كفء أو متهور أو فاشل. نحن مضطرون لإرتداء أحلام ليست على مقاسنا ولا على ذائقتنا لإرضاء من حولنا.

كل جيل يفرّض أحلامًا على أبناءه ثم يبدأ بقياس جدراتهم واستحقاق عيشهم على هذه الأرض بقدر تبنيهم وسعيهم لتحقيق هذه الأحلام. وأيضًا من كل جيل تُولّد مجتمعات وطبقات تفرض تشكيلة من الأحلام المعلبة كشروط للإنتماء وللحصول على هوية هذا المجتمع. كشخص نشأ وتربى مع مجتمع صُنّاع الحياة والصحوة ثم كبر ليجد نفسه منفتحًا لكافة أطياف الطبقة المتوسطة المثقفة عاصرت مجموعة من الأحلام التي كانت معروضة للارتداء وللتبني والتي شخصيًا حاولت كثيرًا العيش مرتدية بعضًا منها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أحد الاحلام التي انتجتها الصحوة هو أن يصبح كل منّا داعية وفقيهًا حتى وإن كان الشخص يمقت الحديث أمام الجماهير ولا يحب الخطابة. مشكلة هذه الاحلام الأساسية في أنها تلاحقك بالاحساس بالعار والعدمية إذا حاولت الانعتاق منها. دائمًا ستقابل شخص ما يُشعرك بأنك أقل وبأنك ناقص لأنك لا تتنفس حُلمًا مُعلبًا. حاليًا من أكثر الأحلام المعلبة انتشارًا هو الحصول على شهادة عليا من جامعة مرموقة في الخارج. حتى وإن كان هذا الشخص لا يعرف ماذا سيصنع بهذه الشهادة ؟ ولا يعرف إلى أين سيتجه بعد هذه الشهادة؟ حتى وإن كان هذا الشخص لا يُحب العلم ولديه صعوبة شديدة في التأقلم مع الأنظمة الدراسية التقليدية والجو الأكاديمي السائد.

لذلك أنا أقترح نشر مطوية وعظية كالمطويات التي توزع في المساجد عن أخطار الاختلاط وكتلك التي توزع في العيادات عن أخطار الأكل الغير صحي. ننشر هذه المطوية على الأمهات في غرف الولادة في المستشفيات عن خطر تعليب أحلام أطفالهم، عن حماية أطفالهم من الأحلام المعلّبة التي تؤخر نمو أجنحتهم الحقيقية للتحليق بعيدًا عن نمطية المجتمع. تحذّر المطوية من هذا النوع من الأحلام لأنها:

١- مملة وباهظة الثمن
الأحلام المُعلّبة تأكل من روحك دون أن تشعر. ستشعر بالملل كجيش من النمل يأكل حماسك ببطء وبهدوء ومن دون أن تدري، وأن تخسر حيويتك واقبالك على الحياة لهو ثمن غالي لا يستحق أن تفرط فيه من أجل شيء لا تريد أن تفعله. أن تسعى لحلمك ليس أنانية بل أنت تقدم خدمة لنفسك ولمجتمعك. المجتمع لا يحتاج إلى ١٠ مليون ناشط حقوقي وسياسي وإن كانت العدالة تصرخ وتستنجد. المجتمع يحتاج حتى يعيش ويتنفس بشكل صحي لناشطين وعاملين في كل مجال وفي كل حقل.
وبما أني مازلت أتخيل هذه المطوية وعظية وتشبه مطويات المساجد سأقول هذه العبارة: لا تنتظر حتى يُخبرك الموت أو المرض انك عشت حياتك مُرتديًا الحُلم الخطأ. فكل الذين تسنى لهم أن يستعدوا لوفاتهم بسبب مرض عضال صعب عبرّوا بشكل أو بآخر عن ندمهم وتأخرهم في السعي لأحلامهم الخاصة. كثيرًا منهم تكلموا عن الكتاب الذين تمنوا كتابته، والأغنيه التي اشتهوا تلحينها، والرحلة التي تمنوا قيادتها. ليس الهدف آن تحقق أحلامك جميعها قبل أن تموت لكن الهدف أن لا تموت وأنت غاضب بأنك لم تبدأ حتى.

الأحلام المعلّبة هي إهدار لنعم الله..للمواهب التي منحها الله لك وحدك..لبصمتك التي لا يملكها أحد سواك. إنها اهدار لفرديتك التي شكلّك الله بها من خلال عائلتك وظروفك وسماتك الشخصية ومواهبك الخاصة.

٢- محددة وضيقة
ماذا لو تستطيع أن تكون أكثر من مجرد طبيب يملك منزلاً ويستمتع بحب زوجة؟ ماذا لو خُلقت لأكثر من ذلك؟ أو ربما خُلقت لشيئ بذات الأهمية أو اقل؟
لولا الأحلام المعلبة لربما كُنا نملك فضائيين أكثر وطباخين أكثر ومحترفي تخاطب مع حيوانات وفنانين يرسمون لنا لوحات تتحدث ويشكلّون لنا قطعًا فنية تتحرك. لربما وجدنا من يستطيع أن يقدم لنا بديلاً عن الرأسمالية أو صورة محسنة للديمقراطية. ولربما وجدنا من يقف أمام تقليدية الأنظمة التعليمية حول العالم وربما استمتعنا بمقاعد طيارة أوسع وأرخص. لولا الأحلام المعلبة لكُنا نستمتع بمجتمع متنوع بدلاً من أغلبية ساحقة تعمل في القطاع الحكومي كمهندسين واداريين وأخرى أكاديمية وثالثة تعمل كمعلمين ومعلمات لا يملكون من الشغف حتى اسمه.

٣- تشغلك عن اكتشاف ذاتك وحقيقتك 
هذه الأحلام المعلبة تنقذك من الضياع في طريقك للبحث عن شغفك الحقيقي. تقدم لك حلاً جاهزًا وطريقًا سهلاً لحياة ناجحة حتى وان كانت لا تُشبهك. إنها تملك ذات الصوت الذي تسمعه في مدينة الملاهي الذي يحرمك من متعة ركوب قطار سريع. إنها حماية وأمان من أن تسلك طريقك الخاص الذي غالبًا ما يكون صعب وليس معبد. إنها تُزين لك مُتعة أن تكون مثل غيرك وتخوفك من الاختلاف. من الصعب أن تكتشف ذاتك وأن منشغلاً تحقق ما أراده لك صديقك، عائلتك، أو جماعتك.

أخيرًا: اختر حُلمك لنفسك..درّب نفسك على التحليق بعيدًا عما تعودت أن تراه..قد تسقط في البداية وقد تضيع لكنك ستصل يومًا ما لشغفك الحقيقي..للرسالة التي خلقك الله من أجلها. اختر لنفسك حتى مقاس حُلمك صغيرًا كان أو كبيرًا..اختر ما يناسب قلبك وتمسك به ولو كان حلمك لا يتجاوز شقتك الصغيرة. لست مضطرًا بأن يكون حلمك أن تصل للمريخ أو تقود حركة مدنية تغير مجرى التاريخ، إن الله خلق للمريخ وللحقوق روّاده ابحث انت عما خلقك الله له وإن كان ذلك صُنع حلوى تُباع على كورنيش جدة تصنع بها ذكرى حلوة في أذهان المارّة.

بالمناسبة: من منّا لا يُحب الحلوى؟ ولا يشعر بالامتنان لمخترع الكنافة؟ ..حتى رائد الفضاء يُحب أن يعود لمنزله بعد وصوله للمريخ ليأكل حلوى لذيذة إحتفالاً بوصوله لكوكب آخر.

دمتم أحرارًا كما خلقكم الله..ومستمعين بأداء المهمة التي تمثلكم والتي خُلقتم من أجلها 🙂

** الصورة من رسم صديقتي وأختي أسماء الجفري

23 Comments

  1. ربما هي هذه الجاهزية هي التي جعلت الإنسان يتماهى مع ماهو موجود؛ يعتقد (هذا إذا أعتقد) أن المتاح هو الخيار الأسلم (و للحفاظ على ماء وجه الأنا) هو الأجمل ..!! لكن للأمانه إن رفعت هذه المعلبات من على “رف العقل” ربما فقد الإنسان إعتقاده بوهجه .. وعاد أمام نفسه كــ عرجون قديم ..!! وهذا عيب!!
    الحلم له أن يكون بابه مشرع على المزايا .. لا المرايا!!!

    وهنا كثير من ربما ..

    قلب .. وردة .. وتحية ..

    Reply
    • اقرأ كلامك وانا محترقة من الداخل، مازلت في بداية الطريق ولكني ارغمت على شيء لا أرغب به وأعلم بأني سأقدم اكبر حسنه قدمتها لنفسي ان كان بمقدوري تركه، لكن للأسف من يسمع؟
      كم اتمنى ان كلامك الجميل والذي يمثل كثيرا من الناس ان يؤثر ويغير من تفكير من يؤمن بالحلام المعلبه، ربما ان ضللت احلم بواقع افضل ومجتمع تفكيره اوسع سأهوّن علي تعب وشقاء العيش في واقع كئيب ومليء بالمجاملات وغير واعي بنفسه من كثرة تحكم الاخرين به، للأسف سيسخر البعض ان قرأ مثل كلامك لكن لن يكون السبب الا لأن عقولهم مبرمجة على نظام معين وتغير هذا النظام فجأه سيكون صدمة كبيره ولن يكون من السهل تقبلها، ربما نحن مازلنا نعيش بهذا العصر ولن يفيد كلامنا شيئا الآن، ولكن ان ساهمنا في نشر هذه الفكره العظيمه في عقول اجيال المستقبل سنعيش يوما في مجتمع خالي تماما من الاحلام المعلبه ومتنوع من ناحية المهارات والشغف.

      Reply
  2. ربما هي هذه الجاهزية هي التي جعلت الإنسان يتماهى مع ماهو موجود؛ يعتقد (هذا إذا أعتقد) أن المتاح هو الخيار الأسلم (و للحفاظ على ماء وجه الأنا) هو الأجمل ..!! لكن للأمانه إن رفعت هذه المعلبات من على “رف العقل” ربما فقد الإنسان إعتقاده بوهجه .. وعاد أمام نفسه كــ عرجون قديم ..!! وهذا عيب!!
    الحلم له أن يكون بابه مشرع على المزايا .. لا المرايا!!!

    وهنا كثير من ربما ..

    قلب .. وردة .. وتحية ..

    Reply
  3. يا للجمال 🙂

    Reply
  4. راااااااااااااائع أكثر من الروعة نفسها
    ابدعتي رفاه وتحدثت عن خطر قلما حذرنا منه احد، كنت احد الأشخاص الآي رفضت حلما معلبا رغم أني ام أكن اعرف بعد ما هو حلمي الا أني رفضت ان يحل محل بحثي عما احب الجري وراء تحقيق ما احب
    لا أنكر ان المجتمع حاول اشعاري بغباء قراري مئات المرات وفي اللحظات التي تأخذنني فيها سفينة الحياة إلى اتجاه غريب أميل إلى تصديق حكمهم علي
    اليوم وبعد ان قرأت إبداعات قلمك اشعر أني سعيدة
    شكراً رفاه لأنك تتقنين فن إسعاد الآخرين

    Reply
  5. ياه! كلام كبير، جميل و عميق.

    Reply
  6. مقال رائع و يحثنا الي مراجعة احلامنا وتقيمها من جديد
    و طرح يدفعنا الى تغير نهج تربيتنا لاولادنا
    شكرا جزيلا لهذه الانارة الجميلة
    عبدالرحمن شلابي ،

    Reply
  7. بديع هذا المقال فكرا وأسلوباً ، رفض النمطية هو الخطوة الاولى نحو الإبداع ، والإبداع هو ما يحقق التغيير الذي نحتاجه لنبني مجتمعاً متميزاً . شكراً لصاحبة المقال ، سأعمل على نشره ما استطعت

    Reply
  8. شكرا رفاه 🙂

    Reply
  9. تدوينه جميله بثت السعاده والامل لنفسي

    Reply
  10. الاحلام الغير معبله غالبا ماتكون نسبة المخاطره فيها عاليه، وتكون مثل بناء بيت على مجرى السيل، تتحطم في اي لحظه، كثيرا من زملائي ارادوا ان يبنوا احلام لم تكون معلبه، احدهم اراد ان يحترف كرة القدم ولكن والداه رفضا هذه الفكره، رغم انه يملك مؤهلات عاليه في هذه الرياضه، وكان التبرير ان هذه الامور غالبا ماتجر لاشياء سلبيه اخرى وفوق هذا غير مضمونه، ايضا انا اهوى الموسيقى ، بدأت تعلم الموسيقى في هذا البلد و اتمنى ان اكون عازف او ملحن موسيقي ولكني اعلم يقينا انه في يوما ما ساتركها لاننها لن تضيف لي ولن تكون بمثابة المستقبل ، ختاما الاحلام المعلبه هي ماختاراها المجتمع لكي توفر لابنائه افضل طرق العيش ، واما غير المعلبه فطريقها صعب وشاق ، وفي الاخير عندما تجد نفسك بين مسؤليات المجتمع الشاقه سوف تضطر لترك هذه الاحلام وتبدأ بالعمل .

    Reply
  11. بالضبط يا رفاه، من الرائع أن يصل الواحد منّا لنقطة التحرّر هذه وللجاهزية لمواجهة آمال العائلة وتوقّعات الأصحاب … بوضوح: يمكنكم تحمل عبء آمالكم وتوقعاتكم، لكن لديّ ما يكفي لتحمله من آمالي وأحلامي وتوقعاتي.

    Reply
  12. رائعة جداً

    Reply
  13. لم ﻻ تكون فكرة أن ﻻبد للإنسان من هدف وحلم يسعى خلفه ويفعل الصعاب من أجله هي بحد ذاتها “فكرة معلبة”؟

    Reply
  14. مقال رائع لخص فكرة مهمة . وملء الفراغ المناسب لتخاطر هذه الفكرة .

    Reply
  15. كلمات في الصميم!
    أتمنى أن يستيقظ أكبر عددٍ من الناس من أحلامهم المعلّبةِ تلك.
    شكراً على تذكيري بأن لا أيأس من تحقيق أحلامي التي يظنّها الناّس مستحيلة~ كم كنتُ في حاجةٍ لسماعِ كلماتٍ كهذه.♡

    Reply
  16. ابدااع، مقال جمييل 💗💗
    شكرا رفاه ابدعتي

    Reply
  17. ابدعتي رفاه كعادتك ماشاالله ودائما تتلمسي آثار الوجع فتضغطي عليه … دمتي حرة طليقة محلقة بأحلامك دوماً حبيبتي

    Reply
  18. مساؤك ليلك ..
    كم اسبغتي علي الرضا والتفاؤل بمقالتك هذة ..!
    اشعر أنك تتحدثين بلساني .. بعبارات لم اصوغها لكني فكرت بها مئات المرات ..
    في وضعي هذا لا صفة تليق بي سوى “ممزقة” ! تجرني الأحلام المعلبة من جهة وشغفي وحلمي الخاص من جهة اخرى .. وللأسباب التي ذكرتيها ، نشعر أننا لن ننال اعجاب الناس ورضاهم حتى نقتني احدى قنينات الأحلام الجاهزة .. والأولى ان نخلقها بأيدينا ونوجدها من العدم بدل اخذها من رف المجتمع الكبير .. وأن لا نألو جهداً لنكسب اعجاب انفسنا ونفخر بها تاركين كلام الآخر وفكرتة وراء ظهورنا .. شكراً لطرحك الرائع ودمتِ مختلفة 🌹

    Reply
  19. رائعه 💕

    Reply
  20. يالله كلامك خلاني اتفائل اسعدتيني ربي يسعدك

    Reply
  21. هذا المقال يمثلني حرفياً..
    أنا الآن في أولى خطواتي في الدراسات العليا في تخصص طبعا أُجبرت عليه، تعبت نفسيتي وقل وزني ولم استطع الاحتمال اكثر وعندما قرأت مقالتك تأكدت أكثر مما يحدث وسيحدث لي.
    استخرت وقررت، طبعا الكل يرى انه اصابني الجنون، ولم يروا بكل بساطه بأنه ليس حلمي. شعرت فعلا بأنه يأكل من روحي .
    اميل الى الفنون بأنواعها -من تصوير ورسم واشغال يدويه وموسيقى- واكره النمطيه، حتى وان لم احقق شيئا يكفي ان اعيش بسعاده و رضى..

    Reply
  22. يالله…

    كم انتي رائعة..

    تحدثتي عن شيء لطالما تعجبت منه..

    مقالك رائع بكل المقاييس..

    استمري يامبدعة

    Reply

Leave a Reply to Pyeorin Cancel reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *