إنها ليست مُجرد معركة يا صديقي !

إنها ليست مُجرد معركة يا صديقي !

إلى أحدُهم ..مع التحية

أعرف بأن هذه الرسالة قد تبدو غير مفهومة بالنسبة لك..وقد تُغضبك فكرة أن أستخدم لغة الوصاية…وقد لا تقرأها لأنها طويلة وأنت تُعاني من ملل يتسرب على شكل صداع إلى رأسك ويلتهم أي رغبة في القراءة لديك. لا يُهم سأكتبها على أي حال فهُنا يكمن سحر الرسالة بالنسبة لي، كتابة الرسائل إليك يُشبع حاجتي للنُصح والوصاية. أنا أؤمن بأننا جميعنا لدينا حاجة نفسية لأن نُنصب أنفسنا أوصياء على الآخرين ونقوم بنصحهم. إننا نتجاوز الأرق والإحساس بالنقص ونتجاوز الحيرة من خلال نُصح غيرنا. عندما ننصح غيرنا فإننا في لحظة نُعلن هُدنة مع معاركنا الداخلية..نُدير ظهرنا لمشاكلنا الشخصية..ونُمتّع أنفسنا بقليل من القوة والسلطة والسيطرة التي نفتقدها في ميداننا الشخصي.

أنا آسفة ..هذا اعتذار مُسبق لك عن أي تجاوز لي في رسائلي فأنت كما تعلم عملي في مجال الارشاد النفسي يمنعني من أن أُدلي برأي أو أنصح أحدًا .مُشرفتي الاكاديمية أثناء دراستي لهذا المجال في أمريكا  كبحت جماحي كوصيّ. رغم أني حاولتُ  افهامها بأني قادمة من ثقافة مليئة بالوصاية وبأن كل منّا يعيش بمنطق ان الذي أمامه دائمًا على خطأ وبأنه مسئول عن انقاذه، إلا أنها لم تتوانى عن تغيير هذه العادة عندي واستخدمت الفُكاهة والضحك لتذكرني في كل يوم أثناء دراستي بأنني يُمكنني نُصحها لكن لا يُمكنني نصح العميل. وبما أني الآن تركت جامعتي ومُشرفتي فأنت ستحل محلها سأتفلسف عليك وأدلي برأي وأحكم على الأمور بطريقتي الخاصة ولن أتوانى عن الافصاح بنظامي القيمي أمامك..سأهرب من نفسي حين أحُبط وسأقول لك لا تكن ضعيفًا وتستسلم..وسأسرد عليك مُحاضرة أخلاقية عن الشجاعة والاقدام في الحياة ! نعم سأقوم بذلك فهذه أكثر طريقة أخلاقية لممارسة دور الوصاية… فأنا أعلم بأنك ستقرأها عندما تُريد وسترمي بها في قمامة بريدك الالكتروني عندما تكون غاضب مني وعندما لا تتسع حياتك لشخص أخر يتفلسف عليك. تعجبني هذه الفكرة جدًا لدرجة أني أحيانًا أودّ أن أخبر النساء الذين ينفلتون عليّ بخطط لأعيش حياتي بشكل أفضل بأن عليهم إرسالها على ايميلي وأنا سأقرأها عندما أجد الوقت الكافي لها.

في هذه الرسالة أودّ ان أحدثك عن صعوبة ان تكون نفسك. اكتشفت ان هذه المهمة أصعب بكثير مما كُنا نتخيل..أستطيع ان اسمع صوتك الآن تُقاطعني وتقول أنا كُنت اعرف بأنها ليست بالسهلة ! نعم وانا أيضاً كنت اعرف ذلك ..كنت اعرف بأن المُجتمع والعائلة وحتى الأصدقاء أحيانًا لا يُشجعونني ان أكون أنا أنا. كنت اعرف أيضاً بأن الجميع يسعى لتطبيعي على مزاجه ونظام قيمه ! وايضاً كنت افهم جيدًا بأن العادي والنمطي هما الخيار الأكثر أمنًا في مجتمعاتنا العربية!

كنت أعرف أن فكرة المقاومة (مقاومة المجتمع..العائلة..الخ)هي فكرة لذيذة ومثيرة وممتلئة بالحياة بكل ما تحمله من مُعاناة وأفراح ..ان تسعى لأن تكون نفسك في هذا العالم الذي تحكمه استهلاكية بشعة هي بطولة في حد ذاتها. لكن ما لم أكن أعرفه يا صديقي بأن العيش بأصدق ذات تملكها وأكثرها أصالة لا يكون دائماً عبر معركة تقاوم فيها اعتداء طرف آخر. نعم ان تكون نفسك يتطلب منك ان تكون مُحاربًا شجاعا أمام العادات والتقاليد وسلطة العقل الجمعي لكن أيضاً يتطلب منك ان تكون باحثًا دؤوبًا عن حقيقة نفسك. ويتطلب منك أيضاً ان تكون مُغامرًا لا يتوقف عن وضع نفسه في تجارب جديدة. ان تكون نفسك يتطلب منك ان تكون مُراقبًا ومحققًا استئنائي مع نفسك: فعليك ان تمطر نفسك أسئلة في المرة القادمة التي تغضب فيها بدون سبب تعرفه.  أن تكون نفسك يتطلب منك ان تكون مؤمنًا موقنًا بالله يقينًا يُشبه يقين العجائر حين ينفثن بالمعوذات على أحفادهن لأنه أمر مخيف أن تُشارك العالم من حولك (حقيقتك) ..عندما تُشاركهم إبداعك ..فنك..حُبك الصادق ..ستشعر بأن جزءًا من ذاتك يغادرك للعالم دون أن تعلم ماذا سيفعل به العالم !

في الشهرين الماضيين، أردت الاستسلام شعرت في لحظة أني أود أن أُغلق الأنوار في عقلي وأنام تاركة هذا الصراع الداخلي سعيًا للأصالة والصدق مع الذات. لم يكن المجتمع هو المشكلة فقد تمرّنت جيدًا لمواجهة المُجتمع لكن كانت نفسي التي تسربت مني في أثناء تنقلي بين مدينتين، بين مرحلتين، وبين حياتين. نفسي تسربت مني حتى أني لم أعد أعرفها ولم يكن بي طاقة للعمل على اكتشافها من جديد. تمنيت أن أكون كأي شخص أخر حولي، أن أكون نسخة مكررة لأفراد المجتمع والأهم من ذلك أن أكون سعيدة بذلك. عندما تفكر في الأمر على المدى القصير فستكتشف بوضوح أن قرارك بأن تكون كغيرك أسهل بكثير من قرارك أن تكون نفسك. لكنك على المدى البعيد ستخسر الكثير من ذاتك وسيصعب عليك لملمتها من جديد. أصبحت أشعر بأن العيش كنسخة مكررة يشبه إلى حد كبير لعملية الإدمان كلما تأخرت في الاقلاع عن التقليد والبدء بالتعبير عن ذاتك وأصالتك كلما كان الأمر أصعب.

 هذا ما توصلت إليه ببساطة بأن التعامل مع ذاتك بصدق ليست مجرد معركة يا صديقي ولو كانت كذلك لكان الأمر أسهل لأن أرض المعركة تجبرك على أن تقدم كل ما في وسعك لتحافظ على حياتك وتنتصر! بينما لا أنا ولا أنت نستطيع التعامل مع مهمة الحفاظ على أصالتنا بنفس الاضطرار الذي يعيشه المُحارب لأنك أحياناً كثيرة ستجهل حقيقتك، ستجهل من تكون ومالذي تُريد. السعي لأصالتك في بعض الأحيان يكون معركة ..لكنه كثيرًا ما يكون رحلة ..وعملية تنقيب وبحث..واختراع..وحب 🙂

تفاصيلٌ أخرى سأكتبها لك في رسالة أخرى عندما اكتشفها… لكن إلا أن أكتب لك رسالة أخرى..عدني بأن تكون نفسك

رفاه

13 Comments

  1. مين صديقك ؟

    Reply
  2. مرّ وقتٌ طويل على أن نجد أصدقاء مدهشين جدد، أنتِ مخلوقٌ جميل، وحقيبة سفرك السحابية هذه مثيرة حقا للاهتمام، شكراً لأنكِ موجودة في هذه الحياة..

    Reply
    • شكرًا لكرمك نورا ! تواصلنا هُنا هو دهشة بحد ذاتها ..أن يُقاسمك الفكر شخص لا تعرفه ولم تره هو الدهشة بحد ذاتها
      لذلك أنا ممتنة لهذا الفضاء الالكتروني الذي يجمعنا 🙂

      Reply
  3. رائعة رائعة رائعة جدا.. حقا معركة صعبة
    سلمتِ يا رفاه

    Reply
    • شكرًا يا شادن لمرورك 🙂 كوني هُنا بالقرب دائمًا

      Reply
  4. أن تكون نفسك وان تتعارك معها في ذات اللحظة!!! شيء يبعث على الحيرة والتساؤل .. ربما!!
    نجد في ذواتنا انعكاسا لكل مانراه وما نعيشه ومانتعلمه ومانعرفه .. ذلك الانعكاس الذي ان اردنا ان نكون وسط صخبه ذواتنا تحتم علينا استخراجها من وسط الوحل..
    لكن هل يجبرنا هذا الطريق ان نصم اذاننا وندير ظهورنا عن الاخرين؟!
    السلطة والوصاية!!
    ليست من السهل تجاهلها ومحاربتها لاننا نعيشها ونتنفسها وبالاخص حين تكون نفوسنا تشارك علينا ذلك الجرم تبعدنا احيانا عن الطريق وتفتننا بالحلول الأسهل..

    Reply
    • هل كل معاركنا مع المُجتمع تستحق الخوض؟
      أيّهما أولى بالاتباع نفسك أم المجتمع؟
      هل يُمكنك أن تحقق ذاتك بدون أن تتصارع مع من حولك؟ هل الذات تتكون في الفراغ أم تتكون في وسط مليئ بالمغالبة والاحتكاك والدفاع؟
      متى نثق بأنفسنا ومتى نثق بمجتمعاتنا 🙂
      أسئلة كثيرة يا سارة تدور في ذهني وأثارها نقاشك !
      الطريق إلى الذات ..طريق شائك يتخلله الكثير من المحاسبة والمراقبة والتفكير
      شكرًا لمرورك الذي أسعدنى
      وحشتيني

      Reply
  5. Thank you Rafah, welcome back, I missed reading you. <3

    Reply
  6. عدني بأن تكون نفسك !

    Reply
  7. معركة الذات من أصعبها لانك في مجتمع يجبرك أن تعيش بازدواجية، و اذا اردت الاستقامة جاءت الاعراف و غيرت كل شي.

    Reply
  8. أستطيع بكل ثقة أن أسم هذه المرحلة التي يمر بها مجتمعنا بضياع الذات بشكل مجمل، بذات وصفك لوصايتك على الفرد لكن على شكل مجتمع.
    عزائي أنه لا مفرّ للباحث من إيجاد ذاته التي ينتمي لها.

    شكرًا رفاه لإعادتك إحياء الكتابة والتدوين والمشاطرة الفكرية الطويلة.
    تحيّتي.

    Reply
  9. ان تكون نفسك يتطلب منك ان تكون مُراقبًا ومحققًا استئنائي مع نفسك: فعليك ان تمطر نفسك أسئلة في المرة القادمة التي تغضب فيها بدون سبب تعرفه. أن تكون نفسك يتطلب منك ان تكون مؤمنًا موقنًا بالله يقينًا يُشبه يقين العجائر حين ينفثن بالمعوذات على أحفادهن لأنه أمر مخيف أن تُشارك العالم من حولك (حقيقتك) ..عندما تُشاركهم إبداعك ..فنك..حُبك الصادق ..ستشعر بأن جزءًا من ذاتك يغادرك للعالم دون أن تعلم ماذا سيفعل به العالم !
    خيال

    Reply
  10. أنا أحدهم
    الذي حفظ الرابط المؤدي لكلماتك هذه على notepad
    و عاد لها الآن و هو في أشد الإحتياج لها
    أشكرك على هذه الكلمات الرائعة
    كل التوفيق لمن يريد أن يكون نفسه
    و كل التوفيق لك رفاه!

    Reply

Leave a Reply to Rafah Sahab Cancel reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *